جثة ... إيمان خَلَّافْ / الجزائر
إنه كذلك دائماً، غامض تحفُّه غمامة سوداء، يحيط به الصمت من كل جانب، يرتدي معطفاً أسودَ، يجلس جهة النافذة في مقهاه آخر الشارع، يحتسي قهوته ببطء بيده اليسرى بينما تشخص عيناه خارجاً متأملة اللاشيء باهتمام بالغ، عيناه متسعتان بشكل غريب محدقتان نحو الخارج توحي لك كأنما ترى أشياءَ أنت لا تراها، إنه إضافة إلى ذلك عصبي للحد الذي يجعله يقتل كل ذبابة تفكر بالمرور بجانبه دون أن يفقد هدوءه ودون أن تتغير تعابير وجهه، الشيء الوحيد الذي يدل على غضبه هو تضخم ذاك العرق الفاصل بين حاجبيه الكثيفين.
شارد الذهن، يسير على الارض كالطائر الشبح في السماء، لا صوت يصدر عن تحركه، كملاك رجيم.
الجميع يقول أنه مجنون؛ إن الناس هنا أو في أي مكان، يغلفون جهلهم لتصنيف الناس ومشاكل الناس، وغباؤهم يمنعهم من فهم النادرين من البشر فيصفوهم بالجنون، إنهم يصفونهم بالجنون كتأكيد منهم لعقولهم تلك التي لفرط جهلهم لا يشكون في صحتها لبرهة.
إنه ليس مجنوناً؛ هو غريب الأطوار فعلاً، لكنه ليس مجنوناً، ثم أنه لم يكن كذلك من قبل!
أصبح كذلك ، فقط مذ علم أنهم قطعوا حبله السري من جثة! مذ علم أن أول صرخة له في الحياة وافقت آخر شهقة لها على هذه الارض الكئيبة.
وكأنه جاء ليكمل حياتها، كان قدراً ألا يستنشقا هواء هذه الارض معاً، كان قدراً أن يسرق منها تنفسها ليعيش وتهلك، كان قدراً أن تزفر زفرتها الأخيرة ليشهق هو شهقته الأولى.
المسكينة! لقد قاومت.. أتخيلها وقد وضعت عينها بعين عزرائيل متحدية إياه، ولم تستسلم إلى أن تأكدت من أنها ملأت رئتي وليدها هواء ، فاستسلمت ..
تعليقات
إرسال تعليق