ليل وطرق... حنة يوسف/الأردن


  أرادته هروباً ينسيها الوجوه والأمكنة، وفراراً من وجع ساكنها طويلاً ولم تعرف منه فكاكاً..  ما نفع الأمكنة عندما تفقد حميميتها؟ وما فائدة الملامح  عندما تكتسي بالغبش، فلا تعود تلمح فيها اسمك أو رسمك؟
لم يبقَ لها من حيز حيث غادرت سوى ما يعادل جناح يمامة هوى في رحلة طيران طويلة. 

  كم تلبستها حالة عدم التوازن كأن تقف على قاع رأسها مثلاً! كأنها تتمرد على المألوف، أو تعلن ثورتها الخاصة بوجه هذا الشتات، دون أن يستطيع أحد النفاذ حتى أخمص قلبها كي يعرفها كما هي دون تنميق.

  قليل من متاع، كثير من الذكريات والروايات قد تستر عري غربتها، وبعض  قصائد تصلح كتمائم  في عنق القلب العليل.
الكتب ....خير الرفاق، أنيسها وونسها في لياليها المتلاحقة عندما تعجز عن تتمة الحكاية، و حين تخونها  فصول الرواية، وهي ابنة الرواية تراها تتكور في عقدها، وتدخل الحبكة من بين شقوق الهوامش.

  ها أنا يا صديقي الروائي! في بقعة ما من (شرق المتوسط)* أبحث عن جهة تأويني، عن مدن بلا أسوار تلفها أو جند يحاصرها، ويعد أنفاسها أو يدقق في الهوية في نقاط منافذها.. ها انا أحمل مدنك بملحها*، وأمضي..  ترى هل ثمة مدن بلا ملح بعد؟؟
لا أصدقاء هناك في المدن الغريبة.. هناك  مقاهٍ صغيرةٌ ما زالت على فطرة الخشب وشهيات الأغاني، وحتماً هناك مكتبة تخفي كتباً ممنوعة!

  أدارت مقود السيارة ... في محطة البنزين سألها الصبي: "كم أعبئ سيدتي؟" تمتمت بينها وبين نفسها: "لرحلة طويله الأمد، لأمكنة  متعرجة بعيدة، لشوارع غير معبدة ومنحدرات حادة". "ولكن الإطارات لا تحتمل!"، ردد خلفها بخفوت وكأنه يسمع وجيب نبضها. "لا عليك عندما تخونني المركبة ساقفز منها وأكمل سيراً حتى منتهى السيرة"... غادرت المحطة.

   لاحت لها الأضواء المنعكسة على الإسفلت الناعم.. رويداً رويداً اختفت مآذن المدينة وقباب الكنائس، وتلاشت البنايات والإضاءات المبهرة وخفتت من خلفها كل الاصوات.

   وحده صوت الشاعر ينده عليها في عمق العتمة ، ويربت على صدرها:

‏‎ولَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُوْلَــهُ ...
       عَلَيَّ بِأَنْـوَاعِ الهُـمُوْمِ لِيَبْتَلِــي 

كأنها في غيبوبة المشهد تستقي لحناً يعذبها أكثر ويشقيها بحدة مبرحة.
كم نستعذب الألم حين يتجافى التعبير، ويعجز اللسان عن الإيحاء ويستعصي.
تشربت  الكلمات، وأدارت أغنية لطالما فتتت قلبها:
يا صاحب العمر ،ولى بنا العمر فاهدأ الآنَ. 
شرقت بدمعها ..ثم ابتلعها  هدير المركبة وهي تعدو فوق طريق طويل، وطويل   ...!!!


شرق المتوسط- مدن الملح: روايتان لعبد الرحمن منيف


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تميم سوفت /سوريا

يا حَاديَ ... هيثم قويضي / سورية

بوح الصورة .... بقلم نبيلة طه / سوريا